الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقوله: {مِنْ حِسَابِهِمْ} قالوا: {مِنْ} تَبْعِيضيَّةٌ، وهي في محل نَصْبٍ على الحال، وصاحبُ الحالِ هُو {مِنْ شيء}؛ لأنها لو تأخرت عنه لكانت صِفَةً له، وصفة النكرة متى قُدِّمَتْ انْتَصَبَتْ على الحالِ، فعلى هذا تتعلَّقُ بمحذوف، والعاملُ في الحال الاسْتِقْرَارُ في {عليك}، ويجوز أن يكون {مِنْ شَيْءٍ} في مَحَلِّ رفع بالفاعلية، ورافعه {عليك} لاعتماده على النفي، و{مِن حِسَابِهِمْ} حالٌ أيضًا من {شيء} العاملُ فيها الاستقرار والتقديرُ: ما اسْتَقَرَّ عليك شَيءٌ من حسابهم.وأُجيز أن يكون {مِنْ حِسَابِهِمْ} هو الخَبَر: إمَّا لـ {ما}، وإمَّا للمبتدأ، و{عليك} حالٌ من {شيء}، والعَامِلُ فيها الاسْتِقَرارُ، وعلى هذا فيجوز أن يكون {من حِسَابِهِمْ} هو الرفاع للفاعل على ذاك الوَجْهِ، و{عليك} حالٌ أيضًا كما تقدَّمَ تقريره، وكون {مِنْ حِسَابِهِمْ} هو الخبر، و{عليك} هو الحَلُ غير واضح؛ لأن مَحَطَّ الفائدة إنما هو {عَليْكَ}.قوله: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء} كالذي قبله، إلاَّ أنَّ هنا يَمْتَنَعُ بَعْضُ ما كان جَائِزًا هناك، وذلك أن قوله: {مِنْ حِسَابِكَ} لا يجوز أن يَنْتَصِبَ على الحال؛ لأنه يلزم تَقّدُّمُهُ على عامله المعنوي، وهو ممتنعٌ، أو ضعيف لاسيما وقدْ تقدَّمتْ هنا على العامل فيها، وعلى صاحبها، وقد تقدَّم أنَّ الحالَ إذا كانت ظَرْفًا أو حرف جرِّ كان تقديمها على العامل المعنوي أحْسَنُ منه إذا لم يكن كذلك، فحينئذٍ لك أن تجعل قوله: {من حِسابِكَ} بيانًا وقد تقدَّم خطابه- عليه الصَّلاة والسلام- في الجملتين تَشْريفًا له، ولو جاءت الجملة الثَّانية على نَمَطِ الأولى لكان التركيب {وما عليهم من حِسَابِكَ من شيء} فتقدَّمَ المجرور بـ {على} كما قدَّمه في الأولَى، لكنه عَدَلَ عن ذلك لما تقدَّمَ.وفي هاتين الجمتلين ما يسميه أهل البَديعِ: رَدَّ الأعْجَاز على الصدور، كقولهم: عَادَات السَّادَات سادات العادات ومثله في المعنى قول الشاعر: [الطويل]
وقال الزمخشري- بعد كلام قدَّمَهُ في معنى التفسير: فإن قلت: أما كفى قوله: {ما عليك من حسابِهِمْ من شيء} حتى ضَمَّ إليه: {مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْء}؟قلت: قد جعلت الجملتان بمنزلةِ جُمْلةٍ واحدةٍ، وقصد بها مُؤدَّى واحد، وهو المعنى بقوله: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 146].ولا يستقل بهذا المعنى إلاَّ الجملتان جميعًا، كأنه قيل: لاتُؤاخَدُ أنت ولا هُمْ بحسابِ صاحبه قال أبو حيَّان لا تُؤاخَذُ أنْتَ... إلى آخره تركيبٌ غير عربي، لا يجوز عَوْدُ الضير هنا غائبًا ولا مُخَاطبًا، لأنه إنْ عاد عائبًا فلم يتقدَّم له اسْمٌ مفرد غائب يعود عليه، إنما تقدَّم قوله: هم ولا يمكن العَوْد عليه على اعْتِقَادِ الاستغناء بالمفرد عن الجمع، لأنه يصير التَّركيب بحساب صاحبهم، وإن أُعيد مُخَاطبًا، فلم يتقدَّمْ مخاطب يعود عليه، إنما تقدَّم قوله: لا تُؤاخَذُ أنْتَ ولا يمكن العَودُ إليه، فإنه ضمير مخاطب، فلا يعود عليه غَائِبًا ولو أبْرَزْتَهُ مخاطبًا لم يَصِحَّ التركيب أيضًا، فإصْلاحُ التركيب أن يقال: لا يُؤاخَذُ كُلُّ واحدٍ منك، ولا منهم بحساب صاحبه، أو لا تُؤاخذ أنت بحسابهم، ولا هم بحسابك، أو لا تؤاخذ أنت ولا هم بحسابكم، فُتَغَلَّب الخِطَابَ على الغَيْبَةِ، كما تقول: أنت وزيد تَضْربَان.قال شهابُ الدين: والذي يظهر أن كلام الزمخشري صَحِيحٌ ولكن فيه حذفٌ، وتقديره: لا يُؤاخذ كل واحد: أنت ولا هم بِحِسَابِ صاحبه، وتكون أنت ولا هُمْ بَدَلًا من كل واحد، والضمير في صاحبه عائدٌ على قوله: كل واحدٍ، ثم إنه وقع في محذور آخر مما أصْلَحَ به كلام الزمخشري، وذلك أنه قال: ولا تُؤاخذ أنت وَلاَ هُمْ بحسابكم، وهذا التركيب يحتمل أن يكون المرادن بل الظَّاهِرُ نَفْيُ المُؤاخَذَةِ بحساب كُلِّ واحدٍ بالنسبة إلى نفسه هو، لا أن كُلّ واحدٍ غير مُؤاخذ بحساب غيره، والمعنى الثَّاني هُوَ المقصود.والضمائر الثلاثة، أعني التي في قوله: {مِنْ حِسَابِهِمْ} و{عليهم} و{فتطردهم} أيضًا عَوْدُهَا على نوع واحد، وهم الذين يدعون ربَّهم، وبه قال الطبري إلاَّ أنَّهُ فَسَّرَ الحِسابَ بالرِّزْقِ الدُّنْيوي.وقال الزمخشري، وابن عطية: إنَّ الضَّمِيريْنَ الأوَّلَيْن يعودان على المشركين، والثالث يعود على الداعين.قال أبو حيَّان: وقيل: الضمير في {حسابهم}، و{عليهم} عائد على المشركين وتكون الجملتان اعْتِرَاضاَ بين النَّهْي وجوابه، وظاهر عبارته أن الجملتين لا تكونان اعْتِرَاضًا على اعتقادر كون الضميرين في {حِسَابِهِمْ}، و{عليهم} عائدين على المشركين.وليس الأمر كذلك، بل هما اعْتَرَاضٌ بين النَّهْيِ، وهو {ولا تَطْرُدْ} وبين جوابه وهو {فتكون}، وإن كانت الضمائر كلها للمؤمنين.ويّدُلُّ على ذلك أنه قال بَعْدَ ذلك في {فتكون}: وجوِّز أن تكون جوابًا للنهي في قوله: {ولا تطرد}، وتكون الجملاتن، وجوابُ الأول اعْتِرَاضًا بين النَّهْي وجوابه، فحعلهما اعراضًا مُطْلَقًا من غير نَظَرٍ إلى الضميرين، ويعني بالجملتين {ما عليك من حِسَابِهِمْ من شيء} و{من حسابك عليم من شيء} وبجواب الأول قوله: {فتطردهم}.قوله: {فتطردهم} فيه وجهان:أحدهما: مَنْصُوبٌ على جواب النفي بأحد معنيين فقط، وهو انْتِفَاءُ الطَّرْدِ لانْتِفَاءِ كون حسابهم عليه وحسابه عليهم؛ لأنه يَنْتَفِي المُسَبَّبُ بانفاء سَببِهِ، ولنوضح ذلك في مثال وهو: ما تَأتِينَا فَنُحَدَّثَنَا بنصب فتحدِّثنا وهو يحتمل معنيين:أحدهما: انتفاء الإتْيَان، وانتفاء الحديث، كأنه قيل ما يكون منك إتيان، فكيف يقعُ منك حديث؟ وهذا المعنى هو المقصود بالآية الكريمة، أي: ما يكون مُؤاخذة كل واحد بحساب صاحبه، فكيف يقع طرد؟ والمعنى الثاني: انفاء الحديث، وثبوت الإتيان.كأنه قيل: ما تأتينا مُحَدَّثًا، بل تأتينا غير مُحَدَّثٍ، وهذا المعنى لا يليق الآية الكريمة، والعُلماءُ- رحمهم اله- وإن أطلقوا قولهم: إن منصوبٌ على جواب النفي، فإنَّما يريدون المعنى الأول دون الثاني، والثَّاني أن يكون منصوبًا على جواب النهي قوله: {فتكون} ففي نصبه وجهان:أظهرهما: أنه منصوب عَطْفًا على {فتطردهم}، والمعنى: الإخْبارُ انْتِفَاءِ حسابهم، والطَّرْد والظلم المُسَبَّب عن الطرد.قال الزمخشري: ويجوز أن تكون عَطْفًا على {فتطردهم} على وجه السبب؛ لأن كونه ظالِمًا مُسَبَّبٌ عن طَرْدِهِمْ.والثاني من وَجْهَي النصب: أنه منصوبٌ على جواب النهي في قوله: {ولا تطرد}.ولم يذكر مكي، ولا الواحدي، ولا أبو البقاء غيره.قال أبو حيَّان: أن يكون {فتكون} جوابًا للنيه في قوله: {ولا تطرد} كقوله: {لاَ تَفْتَرُواْ عَلَى الله كَذِبًا فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ} [طه: 61]، وتكون الجملتان وجوابُ الأوَّل اعتراضاَ بين النهي وجوابه.قال شهاب الدين: قد تقدَّم أن كونهما اعْتِرَاضًا لا يتوقَّفُ على عَوْدِ الضمير في قوله: {مِنْ حِسَابِهِمْ} و{عليْهِمْ} على المشركين كما هو المفهوم من قوله ها هنا، وإن كان كلامه قبل ذلك كما حكيما عَنْهُ يُشْعِرُ بذلك. اهـ. باختصار.
|